30/06/2022 - 16:23

أن ترسم شيئًا يمكن أن تُقْتَلَ بسببه | حوار مع سارة قائد

أن ترسم شيئًا يمكن أن تُقْتَلَ بسببه | حوار مع سارة قائد

سارة قائد

 

* تجربة ناجي العلي هي الأبرز على قدرة الكاريكاتير على صناعة الهويّات الجمعيّة.

* تعلّم تقنية الرسم ليس تحدّيًّا، لكنّ التحدّي أن ترسم شيئًا يمكن أن تقتل بسببه. 

* أسأل نفسي يوميًّا إن كنت أملك حقّ بيع أعمال تتضمّن معاناة الآخرين. 

* أيّ عمل يمكن أن يمثّل فئة اجتماعيّة سيشعر فئةً أخرى بأنّها مستبعدة. 

 

 

وُلِدَت رسّامة الكاريكاتير البحرينيّة سارة قائد عام 1990، وكانت بدأت ممارسة رسم الكاريكاتير منذ عام 2010 في صحيفة «النبأ» البحرينيّة الأسبوعيّة، وقد برعت في التصميم ورسم قصص الأطفال، وتميّزت في رسوم الكاريكاتير عربيًّا وعالميًّا.

تركّز قائد في رسوماتها على قضايا المرأة واللجوء والهجرة غير الشرعيّة والفتنة الطائفيّة والجهل والاستبداد السياسيّ، وفي عام 2019، قرّرت اللجنة التابعة لـ «جائزة ابن رشد للفكر الحرّ» تقديم الجائزة لقائد بناءً على رسوماتها الّتي احتوت على نقد للأنظمة الاستبداديّة إضافة إلى رسائل إنسانيّة تخصّ أزمات النزوح وكوارث إنسانيّة أخرى.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع قائد، نتحدّث معها عن تجربتها الفنّيّة، والاعتبارات الأخلاقيّة والقيميّة الحاضرة في العمليّة الإبداعيّة، وواقع الكاريكاتير العربيّ.

 

فُسْحَة: هل يمكن التفكير في الكاريكاتير بوصفه أداة فعّالة في تشكيل وصناعة الهويّات الفرديّة والجمعيّة؟

سارة: تعريف الهويّة وتشكّلها عمليّة معقّدة ومتغيّرة. يمكن القول إنّ الكاريكاتير أسلوب بصريّ بسيط إلى حدّ ما، يحمل المجاز والصورة ذات الدلالة السياسيّة والاجتماعيّة الصريحة، وقد أصبح تلقّي الأعمال في الفضاء المفتوح أكثر سهولة من السابق. ثمّة عوامل كثيرة قد تدفع في اتّجاه قدرة الفنّان على أن يكون فاعلًا في الحقل الثقافيّ، ومنها استمراريّته وتأكيده على أفكار معيّنة، وذلك ما قد يجعل من الفنّان فاعلًا مؤثّرًا في الأفراد أو الجماعات على المستوى الهويّاتي.

لو أخذنا الرسوم في معناها الأوسع، يمكن القول إنّ الجميع قد سبق له أن ارتبط أو أحبّ شخصيّة كرتونيّة، شخصيًّا تابعت مجلّات «ماجد» و«أحمد» و«سعد»، وأعتقد أنّ هذه القصص المصوّرة أثّرت فينا وتفاعلنا معها وساهمت في تكوين أجيال عديدة.

 

فُسْحَة: قياسًا على تجارب سابقة في الكاريكاتير العربيّ، ما التجربة الّتي تستحضرك بوصفها مثالًا على قدرة الكاريكاتير على صناعة الهويّات الجمعيّة؟

سارة: أحبّ فكرة الكاريكاتير الصحفيّ؛ أن تستيقظ وتسجّل حدثًا معيّنًا بنبرتك الخاصّة وبسخريتك وفهمك الخاصّين، لكنّني لا أحصر نفسي فقط في مطالعة الكاريكاتير، فنحن جزء من عنوان أوسع هو الفنّ والرسم والعلامات الّتي تترك على الجدران وأماكن أخرى.   

يمكن القول إنّ تجربة ناجي العلي هي المثال الأبرز على قدرة الكاريكاتير على صناعة الهويّات الجمعيّة، وقد أذهلني كيف يمكن له امتلاك مجموعة من الخطوط البسيطة على الورق وأن يكون قادرًا على الوصول إلى الجميع وبطريقة مختلفة في كلّ مرّة. الأمر الآخر الخاصّ بناجي العلي هو تركيزه على قضيّة معيّنة وهي القضيّة الفلسطينيّة، إذ ليس من السهل الحفاظ على الاستمراريّة في العمل ولفترة طويلة مع الأخذ بالاعتبار التهديدات الّتي تلقّاها ووفرة الإنتاج والأفكار لديه؛ ففي مقابلة سابقة قال إنّه ينتج ثلاث أو أربع أعمال في اليوم الواحد وذلك استثنائيّ. أن تنتهي من رسم لوحة ما وتعرضها للعالم ومن ثمّ أن تتعامل مع تبعات ظهور هذا العمل أمر يحتاج إلى قوّة. ما يبهرني أيضًا في تجربة العلي هو قدرته على أن يكون في كلّ مكان بسبب ابتكاره لحنظلة الّذي أصبح قريبًا جدًّا من الجميع؛ فحنظلة بات قلادة تلمسك بصورة يوميّة، أو ميدالية، أو مطبوعًا على الملابس. إنّ اغتيال العلي هو الجزء المحزن في قصّته؛ فانتهاء حياة فنّان بسبب رسوماته يجعلنا نعيد التفكير في كلّ مرّة ننظر فيها إلى أعماله، إلى الزوايا الّتي كان يطرحها والشخصيّات الّتي عالجها مثل الوطن والمرأة والشعب والأنظمة السياسيّة.

في البحرين هناك عبد الله المحرقي، وهو فنّان تشكيليّ مشهور وقريب من الناس، يُضحِكُ المتلقّي ويتحدّث اللهجة المحلّيّة في أعماله، أيضًا خالد الهاشمي الّذي تضمّنت أعماله معالجة لتمثيل الشيعة والسنّة وقد أحدثت أعماله شغبًا في بعض الأحيان.

أيّ شخص بإمكانه رسم الكاريكاتير، تعلّم التقنيّة ليست التحدّي، بل أن تنتهي من هذه المساحة البيضاء الفارغة وقد رُسِمَ عليها شيء يمكن أن تُهَدَّدَ أو تُمنَع أو تقتل بسببه.

قد لا أكون متابعة جيّدة، لكن تجذبني أعمال منى حاطوم ودعام العدل، وأغلفة كتب حلمي الطوني، ومارينا نردي ومحمّد عفيفة وحسّان مناصرة، والآن بين يديّ رواية مصوّرة بعنوان «The Arrival» للفنّان Shaun Tan وهو فنّان رائع يستحقّ المطالعة.

 

فُسْحَة: هل كنت قادرة على ممارسة الرسم بحرّيّة في البحرين، وهل تحظين بهذه الحرّيّة في بريطانيا؟

سارة: ليس هناك تجربة كاملة، وليس ثمّة مكان يمنحك شعورًا بالحرّيّة المطلقة. مع فارق المساحة هنا وهناك، لكن حتّى في بريطانيا ثمّة بعض التقييدات على الحرّيّات عندما يتعلّق الأمر بتهم مثل معاداة الساميّة، وكذلك ثمّة تقييد على حرّيّة انتقاد الاستعمار الواضح منه أو ’المتحوّر‘، خاصّة عند العمل مع مؤسّسات متورّطة وشخصيّات مغيّبة.

 

فُسْحَة: حدّثينا عن عمليّتك الإبداعيّة اليوميّة، كيف تقرّرين رسم شيء ما وعدم رسم شيء آخر؟

سارة: في الصباح هناك وقت لقراءة الأخبار، ومن ثمّ اختيار الخبر الّذي تعرضه كلّ وسيلة إعلاميّة بطريقة مختلفة، وعليك كرسّام اختيار الزاوية الّتي تريد التركيز عليها، وأحاول عادة أن أطالع شهادات الناس أو قصص الأشخاص المرتبطة بالأخبار، وبعد الاطّلاع على تلك الشهادات واستيعابها حدّ الاندماج معها وتخيّل الظروف المحيطة بالحدث – وهي تظلّ محاولات للتخيّل، فليس ثمّة ما يمكن أن يقترب من الواقع تمامًا، فهو متغيّر ويختلف من شخص لآخر - بعد ذلك تبدأ عمليّة الرسم.  

أنا لا أرسم السياسيّين بقدر ما أرسم الأشخاص العاديّين، وعادةً ليس هناك وقت محدّد أو برنامج واضح، فقط رفقة الأقلام والأوراق الدائمة لأنّني لا أعرف متى يمكن أن تظهر الأفكار، أحيانًا يكون لديّ أربعة أفكار في يوم واحد وفي بعض الأيّام لا شيء، ولا حتّى فكرة واحدة. أمس مثلًا حاولت التعمّق في تفاصيل قصّة لناجية من اعتداءٍ جنسيّ، وشرعت بالفعل في عملين، لكنّني لم أتمكّن من إكمالهما، وفي بعض الأحيان، أنتهي من العمل في ساعة.

عادة ما أسجّل يوميّات بصريّة، مزيج من تسجيل الأشياء والألوان والصور والمحادثات الّتي أجمّعها في دفتر يوميّات. أعتقد أنّ جزءًا مهمًّا من العمل هو أنّه فنّ تفاعليّ أو فنّ اجتماعيّ؛ فالرسم ليس عمليّة فرديّة بحتة، بل عمليّة تفاعليّة، وأعتقد أنّ التلاقي بين الفنّان وجمهوره جزء أساسيّ من العمليّة الإبداعيّة، وهذا التلاقي أحيانًا يحصل قبل الشروع في عمليّة الرسم نفسها، وأنا أحبّ أن يكون العمل جماعيًّا بقدر الإمكان، ولا أفكّر بأعمالي بوصفها ملكيّة خاصّة لي، خاصّة وأنّ كثيرًا منها يتضمّن قصصًا تخصّ الآخرين، قضاياهم ومعاناتهم.

 

للفنّانة سارة قائد

 

فُسْحَة: هل تفضّلين أن يطبع الكاريكاتير طبعة تجاريّة تجعله قابلًا للامتلاك من قبل أكثر من شخص، أم تفضّلين وجود نسخة واحدة فقط من كلّ عمل؟

سارة: الحديث عن العائد المادّيّ إشكاليّ؛ فالكاريكاتير يتضمّن معاناة الآخرين. عادة ما أفكّر وبصورة متكرّرة وحتّى مع الجهات الّتي أعمل معها بشكل دائم، أفكّر بأنّني قد لا أملك حقّ بيع هذه الأعمال أو الحصول منها على عائد مادّيّ. أسأل نفسي هذا السؤال يوميًّا حدّ الشعور بالذنب؛ عن فكرة استلام مبلغ معيّن لبعض الصور، خاصّة الّتي تتضمّن معاناة أشخاص ومجازر بشكل صريح. أحيانًا أنشر دون الحصول على عائد مادّيّ، وفي بعض الأحيان أرسل المبالغ الماليّة لأصحاب المعاناة أنفسهم، فمثلًا مؤخّرًا اشتغلت على أعمال تتعلّق بالمرأة الفلسطينيّة وكان العائد المادّيّ للحقائب والمطبوعات مخصّصًا للمؤسّسات والمشاريع الّتي تدعم المرأة الفلسطينيّة، وهي تصبّ في فكرة الرسم الأساسيّة، أي إعادة تدوير العمل وكيفيّة تصوير ’المعاناة‘ بصريًّا ومحاولات الدعم والتضامن. وهذه ليست دعوة للعمل مجّانًا أو لاستغلال الفنّان، من حقّ أيّ فنّان اختيار ما يريد نشره تطوّعًا أو بمبلغ يراه مناسبًا لجهده.

 

فُسْحَة: قلت أنّك لا ترسمين السياسيّين بل الأشخاص العاديّين، إذن، ما المعايير الّتي تحكم التمثيل البصريّ للضحايا أو الشخصيّات الحاضرة في أعمالك؟ مثلًا، عند رسم شخصيّة ما تمثّل جماعة ما أو في سياق قضيّة معيّنة، ما الّذي يدفعك إلى رسم امرأة محجّبّة وأخرى غير محجّبة مثلًا؟

سارة: حتّى في بيئة محافظة ستفكّر لا في الحجاب فقط، بل في شكله أيضًا وطريقة ارتدائه. أفكّر في القالب، والفكرة الأساسيّة للعمل معًا. في النهاية، التمثيل البصريّ يعود إلى ما أراه وكذلك يعتمد على طبيعة العمل والموضوع نفسه؛ فاللوحة الّتي تظهر امرأة فلسطينيّة بشعر طويل وملوّن يتربّص بها ثلاثة جنود إسرائيليّين ويحملون مقصّات بإيديهم، يمكن التفكير فيها في سياق أنّ قصّ الشعر عربيًّا يعدّ عقابًا، وحتّى خارج الثقافة العربيّة كمعاني أخرى. لكنّ وجود شعر المرأة بكثافة في هذا العمل ضروريّ جدًّا

للفنّانة سارة قائد

 

عادةً ما أميل إلى المزج في الأعمال، أن يكون ثمّة تنوّعًا وتعدّدًا في الرسومات، وهذه العناصر المتنوّعة كالرجل والمرأة وحضورهما المتزامن ضروريّ لفهم القضايا المتناولة كالقضيّة النسويّة أو الوطنيّة أو أيّ قضيّة أخرى، وأفضّل التعامل أو خلق مساحات تقاطعيّة في هذه القضايا بقدر الإمكان. السؤال الأهمّ هو في عرض الفكرة نفسها، وهنا تصطدم بمعوّقات سواء كنت رجلًا أو امرأة، في كلّ الأحوال، وفي السياق العربيّ، عادةً ما يتوجّب عليك التعامل مع تبعات أيّ عمل ترسمه أو تكتبه.

قبل فترة نشرت عملًا عن التحرّش والوحشيّة الّتي تبدأ من المغتصب، لكنّها تستمرّ عندما تتعرّض الضحيّة، المرأة، للّوم أو الأسوأ من ذلك التغطية من النساء أنفسهنّ. وهنا وجدت نفسي أن انتهيت إلى تصوير المجرم ككائن متوحّش بدون ملامح تفصيليّة. وهذا التوجّه  في العمل الّذي لا يرى في الأشخاص بمختلف توجّهاتهم وجنسهم خيرًا أو شرًّا مطلقين، يصبّ في خدمة القضيّة نفسها والتضامن الشفّاف مع الضحايا.

 

للفنّانة سارة قائد

 

لكن، حتّى عندما أرسم عن القضيّة الفلسطينيّة، وأنا لم أزر فلسطين من قبل، فكلّ ما أفعله هو القراءة عن فلسطين، إلى جانب أصدقائي الفلسطينيّين والفلسطينيّات، وحقيقة أنّني لم أكن في فلسطين من قبل تجعلني أتساءل عمّا سأرسم عندما أفكّر بفلسطين، وإذا ما كنت أجيد رسمهم؟ لكي أكون عادلة سأقول إنّ أيّ عمل من الممكن أن يمثّل فئة اجتماعيّة معيّنة سيُشْعُر فئةً أخرى بأنّها مستبعدة. لا يوجد عمل يتضمّن الجميع، ويتحدّث عن الكلّ، لكن قد يجد يرى البعض أنفسهم في العمل، في شخصيّات قد تبدو خارجيًّا تشبههم أو تختلف عنهم قليلًا. 

 

فُسْحَة: ما الّذي يجعل ضحيّة مفضّلة على ضحيّة أخرى، أو قضيّة على أخرى؟

سارة: أفكّر في هذا السؤال بشكل دائم، ولافتقادي الإجابة الواضحة، عادةً ما أشعر بالذنب. مبدئيًّا، لا يجب أن تكون معاناة شخص أهمّ أو محطّ انتباه أكثر من معاناة شخص آخر. المسألة ليست قضيّة أو ضحيّة مفضّلة على حساب أخرى، لكنّك لا تستطيع أن ترسم وتتحدّث عن كلّ شيء، يجب عليك اختيار شيء معيّن، لكن لماذا اخترته على حساب غيره؟ ربّما يكون السياق الثقافيّ واللغويّ هو السبب، في الواقع أنا أفكّر معك هنا، وأفكّر بالأسباب الّتي تدفعني إلى اختيار قضيّة على أخرى، وربّما يكون أيضًا تركيز وسائل الإعلام على بعض القضايا ما يدفع إلى الكتابة والرسم عنها بشكل أكبر من غيرها.

 

فُسْحَة: أنت محقّة، لا يمكن أن نكتب ونرسم عن كلّ شيء، لكن ما يمكن فعله هو أن نكون على استعداد لتقديم الدعم نفسه الّذي نقدّمه لضحيّة معيّنة، أن نكون على استعداد لتقديمه لضحيّة أخرى، غير معرّفة أو مجهولة، في حال كان ذلك ممكنًا أو مواتيًا. سؤالي الآخر يتعلّق بالخطّ الفاصل بين السخرية والنقد لأجل الضحايا، والسخرية والنقد من الضحايا أنفسهم؟

سارة: لا أعرف كيف يمكن قياس ذلك، ليس لديّ جواب واضح على هذا السؤال. أثناء تعاوني مع إحدى الصحف كان ثمّة اتّفاق على سياسة واضحة وهي عدم السخرية من الطرف الأضعف، وهو مبدأ جيّد لكنّه يصطدم بإمكانيّة أن يعتبر الجميع أنفسهم الطرف الأضعف أو المتآمر عليه! أرسلت للصحيفة نفسها مسوّدة عمل في مضمونه نقد ساخر للسكوت عن الظلم والوصول بعد ذلك إلى حالة من الرضا أو الدفاع عن الظلم نفسه، ومن يشاهد العمل ’ظاهريًّا‘ من الخارج، ربّما يعتبره نقدًا للطرف الأضعف وفيه سخرية من الشعب، لكنّني أتساءل من خلال العمل عمّا إذا كان على الشعب أن يظلّ دائمًا في صورة نقيّة ومنزّهة عن النقد؟ وأتساءل إن كان يجب علينا دائمًا تجنّب المسّ بهذه الصورة. 

ثمّة حالة بصريّة مستفزّة تتمثّل في سخرية البعض الدائمة من الطرف الأضعف، مدفوعة بدوافع أيديولوجيّة وفكريّة أيضًا، مثل أن تحدث مجزرة فنتجاهل المجرم وننتقد رأس الخروف المقطوع وأجزاءه المعلّقة. 

لكن أن تكون قد سبق ونشرت أعمالًا تنتقد وتسخر من المجرمين ومن المعتدين والأنظمة السياسيّة وغيرها من الأطراف الّتي يمكن وصفها بالمهيمنة/ القويّة، وفي بعض الأحيان تعرّضت بالنقد لطرف ضعيف لا سخرية منه بل نقدًا لسلوك ما، فلا أعتقد أنّ هذا يعدّ سخرية من الضحايا. 

من الضروريّ هنا الانتباه لمجموع ما نشره الفنّان من قبل، ذلك أنّ الكاريكاتير فنّ يتّسم بالاستمراريّة الدائمة، ويمكن فحص ما نشر سابقًا وفحص التطوّر والتغيّر الّذي طرأ على فنّان ما. بمعنى آخر، النظر إلى أعمال الفنّان ككلّ بدلًا من النظر إلى عمل ما بشكل منفرد، فهل ذلك ممكن؟ 

 

فُسْحَة: لو تحدّثنا مثلًا عن الحالة الفلسطينيّة، فالفلسطينيّون ضحايا واضحين للاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ، لكن، داخل المجتمع الفلسطينيّ نفسه ثمّة مجرمين وضحايا على مستويات اجتماعيّة وسياسيّة مختلفة، فمثلًا، هل ستشعرين بتردّد في رسم فلسطينيّ يعنّف زوجته، ولو كان مثلًا، مقاومًا؟

سارة: أجل، سأرسمه، المقاومة نفسها قد تدعم أنظمة ديكتاتوريّة، وقد نشرت من قبل أعمالًا تنتقد علاقة «حركة حماس» مع النظام الإيرانيّ و«حزب الله». لكنّني أيضًا نشرت أعمالًا وبشكل دائم تدعم القضيّة الفلسطينيّة والمقاومة في قطاع غزّة خلال الحروب الإسرائيليّة المتكرّرة على القطاع.

 

فُسْحَة: وهل ثمّة محاذير من أن يستخدم المضطهِدون الموادّ الساخرة من الضحايا، مثل أن تستخدم إسرائيل موادًّا ساخرة من «حماس» في إطار حربها الإعلاميّة الروائيّة على الشعب الفلسطينيّ؟

سارة: لا يمكن للشخص الّذي يستخدم هذه الصورة، أو الشخص الّذي يلاحظ استخدامها، أن يتجاهل موقف الفنّانة نفسها الّتي هي أصلًا معارضة للحركة الصهيونيّة ومؤيّدة لحقوق الشعب الفلسطينيّ. لكنّ التصيّد ممكن، فنحن نعيش في فضاء مفتوح، لكنّ السياق ضروريّ، ولا يمكن فصل عمل واحد عن سلسلة من الأعمال.

 

فُسْحَة: هي إذن مخاطرة لا بدّ منها، كذلك أعتقد أنّ للتوقيت أهمّيّة في قراءة مغزى وسياق العمل الناقد أو الساخر؛ فمثلًا، السخرية من المقاومة في قطاع غزّة خلال الحرب ستُفهم على أنّها تأتي في سياق حرب الرواية الصهيونيّة على الوجود الفلسطينيّ، تمامًا مثلما ستعدّ السخرية من المعارضة السوريّة، لنقل على سبيل المثال، في لحظة محاصرة قوّات النظّام السوريّ لمدينة ما تتحصّن فيها المعارضة، ستُفهَم أيضًا على أنّها مساندة للنظام في حربه على الشعب السوريّ...

سارة: أجل، التوقيت مهمّ، ونحن نتكلّم عن أسوب بصريّ لا يملك أدوات شرح أو تبرير نفسه كما في الكتابة.

 

للفنّانة سارة قائد

 

فُسْحَة: كم من الصعب أن يعتاش فنّان الكاريكاتير من مهنته؟

سارة: قبل الحديث عن الجانب المادّيّ، من المهمّ القول إنّنا بحاجة إلى قدر معقول من الحرّيّة حتّى نتمكّن من العمل، وحتّى يمكن أن يكون هناك تجربة تنشأ وتتطوّر وتراكم الخبرات. لا يمكن فصل الكاريكاتير عن الشخص نفسه، يولد الإنسان ثمّ تأتي عمليّة الكتابة أو الرسم، يبدأ الإنسان بالتعبير عمّا حوله من خلال الرسم أو الكتابة، لكنّ الواقع أنّ هذه الرغبة في التعبير تُقْمَعُ منذ البداية لأسباب كثيرة من بينها تهديد الحياة نفسها أو الخوف من الاعتقال أو القتل أو الاستجواب أو حتّى مغادرة المنزل وعدم العودة ثانية.

المسألة الأخرى المتعلّقة بواقع الكاريكاتير العربيّ هي ضرورة وجود نوع من الحوار عن تجاربنا الفنّيّة العربيّة، وأن يكون هناك تقبّل في ما بيننا لبعضنا البعض. أعتقد أنّ هذا المناخ، مناخ التواصل الفنّيّ أو الحوار الفنّيّ المتبادل بين الفنّانين والفنّانات العرب، غائب عربيًّا، وغيابه يعني غياب التجارب المشتركة، وغياب الاحتكاكات الشخصيّة الّتي يتولّد عنها الجديد والتجريب. لقد تعلّمت الكثير من النقاشات مع غيري من الفنّانين والفنّانات، وأحبّ أن يكون هناك هذا النوع من التواصل الدائم.

مادّيًّا، من الصعب على الفنّان أن يعتاش من فنّه؛ فأوّلًا هناك حاجة إلى ممارسة طويلة لبناء الأسلوب أو الفكر المعيّن، وهي فترة من الزمن لن تكون قادرًا فيها على الحصول على عائد مادّيّ جيّد، وربّما لا شيء بالمطلق. لاحقًا ستبحث عمّن ينشر هذا النوع من الأعمال، وستحتاج إلى مجلّة أو منصّة أو جريدة لنشر رسوماتك حتّى لو لم يكن هناك توافق مئة بالمئة على الأفكار والمحتوى، خاصّة مع عمليّات التحرير والنشر والنقاش المستمرّ حول العمل من قِبَلِ الناشر الّتي ’أحيانًا‘ ما تعمل على تشذيب العمل أو فكرته. وحتّى إن حصلت على عائد مادّيّ، فستحصل على العائد المادّيّ الخاصّ بالوقت الخاصّ بعمليّة الرسم – ساعة أو ساعتين – وبالتالي ستحصل على ما يشبه المكافأة دون الأخذ بالاعتبار الوقت الّذي قضيته في القراءة أو اختيار الزاوية أو التفكير في موقفك من المحتوى أو التعديل، وهذا يعكس عدم فهم لطبيعة العمل ومن ثمّ ضرورة نقاش جهة العمل للاتّفاق على ماهيّته. لكنّ معظم مَنْ ألتقي بهم من الفنّانين العاملين في هذا المجال لديهم أعمال أخرى جانبيّة.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.

 

 

التعليقات